التخطي إلى المحتوى الرئيسي

نوح الزاجل





طار 'نوح' بجناحيه مسرعا باسطا إياهما في السماء .. 
كان يدعوه ' نوح الزاجل ' ، كان يحب هذا الاسم و يبتسم في كل مرة يناديه به .. 
فهو كان الصديق الوفي الذي يحمل الرسائل ذهابا و ايابا، خصوصا عندما اندلعت الهجمات الجوية الأخيرة، فتم استدعاء كل الجنود في مختلف الأسلحة إلى ثكناتهم ، 
و كالعادة ميعاد العودة للمنازل مجهول لأجل غير مسمى .. 

سافر ' نوح الزاجل ' حاملا رسالته كمن له دور بطولي في الحرب الراهنة، تشعر و كأن الانتصار رهن عليه عندما تنظر إلى مقلتي عيونه ، جدية صارمة كأبطال أفلام المهمة المستحيلة .. 

 و بعد سفر يومين متواصلين،
 ‏وصل نوح أخيرا إلى بيت الوالدة الطيبة في وسط حارات القرية ، كانت تعيش بمفردها و لا شيء لها باقي غير ابنها الحبيب الذي تنهال دموعها من أجله كل نهار و ليل فقط حتى يعود إلى حضنها سالما ، فهذا كل ما ترجوه من الدنيا ...
 و كانت إطلالة نوح دائما ما تبعث في قلبها الطمأنينة و الابتسامة ترتسم على وجهها مجددا ..
 ‏فللحظات يختفي القلق و التوتر و الخوف اللذين لم يرتضوا بأن تبقى الأم وحيدة معتزلة في منزلها ، و قرروا مؤانستها ..
 ‏
استقبلت الأم نوح بالترحاب الحار ،  فهو الضيف الوحيد الذي يقوم بزيارة المنزل، و لحسن الحظ أنه ضيف خفيف فلا حاجة لإعداد المنزل و غرف الاستقبال و تلميع الزجاج و خلافه و كل هذه الترتيبات الشكلية، 
فقط بعض من الحبوب و أشياء مما يفضلها نوح ليتغذى بها بعد سكة السفر المرهقة تلك، و بينما يلتهم نوح وجبة الغذاء الشهية ، تكون الوالدة قد بدأت في ارتداء نظارة القراءة لترى ما هو مكتوب في رسالة ابنها اليوم : 

أمي .. 
أنا خائف حقا .. 
أشعر بشيء غريب في داخلي مغاير عن أي استدعاء سابق للجيش، أفتقد الحساء الساخن من يديك ، فأنا هنا أتجمد من الثلج فميعاد مناوبتي أصبح طوال الفجر حتى أكاد لا أشعر بجسمي .. 
نسمع هنا أصوات صواريخ قاصفة في كل ليلة لكن يا للروعة فهي تضيء لنا ليالينا بأشكال و ألوان، كأنه احتفال يا أمي .. 

حسنا حسنا ، أعلم أن الطريقة تلك لا تحبينها في دعابتي !!

سأظل أتساءل؛ 
متى يا أمي يحل السلام في هذا العالم التعيس ؟ 
متى يحب الناس بعضهم البعض فلا يضطرون لقتل بعضهم البعض ؟ و من أجل ماذا و من و لماذا يفعلون هذا و ماذا بعد كل هذا ؟ 
أتتذكرين في صغري ، كنت تعلمينني دائما أن أقول في صلاتي " اجعل الجميع يحب الجميع." 

اااه يا أمي، 

الآن و كأن ألبوم الذكريات كله انفجر الآن في مخيلتي،
دموعي تنزل الآن أمامي و لكن سأمسحهما سريعا قبل أن يراني جندي آخر  .. 
أتتذكرين الكعك الساخن و كوب اللبن الذي كنت أكرهه قبل نزولي إلى المدرسة كل صباح ؟ 
الواجبات ..
الفسح .. 
الدراجة التي طالما ما كانت حلم حياتي و وعدتيني بشرائها لي إذا ما تفوقت في دراستي.. 
التسلل ليلا لأكل الحلوى ، لن أنسى عندما كشفتيني في ليلة منهن، و بدأت أجري منك في كل أنحاء المنزل، هاهاهاها ثم بعدها ارتميت في حضنك الدافيء و أغمضت عيني في قمة سعادتي ..

أفتقدك كثيرا و أفتقد حضنك لي ..

أفتقد إليزا كثيرا .. هل هي بخير ؟!
اذا رأيتيها ابعثي لها سلامي و شوقي إليها، و قولي لها بأن ترسل صورة صغيرة لها مع نوح في زيارته المقبلة ، فصورتها القديمة ضاعت مني في آخر مناورات تدريبية .. لكن لا تقولي لها هكذا حتى لا تغضب مني، كوني ذكية ناصحة يا أمي !! مثلا قولي لها بأن صورة واحدة لها لا تكفي لي أو شيء من هذا القبيل .. 

أعلم ما تريدين معرفته،
لكني لا أعلم ميعاد رجوعي صدقيني و لكن كل ما أعلمه بأن هناك صوت طلقات نارية بجانبي الآن !!! 

حاضر لن أكررها مجددا .. 
صديقي راي يرسل تحياته إليكي، نعم أنتم لا تعرفون بعض لكنه مجنون قليلا فاذا كتبتي ل، فردي عليه بالتحية .. 

لا أعلم ماذا أقول، 
لكن لحظات كهذه الانسان يكتشف أسرار و أبعاد عميقة في داخل نفسه و الآخرين .. لا أريد أن أتغير يا أمي، أريد أن أبقى كما أنا لكن الموضوع ليس بيدي .. فحقا صدق من قال يوما ما بأن عند حافة النهاية، تجد ملء الحياة أو المعنى .. لا أتذكر جيدا القول فإني الآن أتناول بعض السكريات لتنشيطي مجددا لأستطيع اكمال مناوبتي تلك ..

يكفي هذا الآن، 
انتظري الرسالة المقبلة مني لأن بها شيئا مهما يجب أن أقوله لكي  .. 
اعتني بنوح جيدا ، فهو يستحق حياة جيدة في فلك هذا العالم ..

ليلة سعيدة هنيئة .. 
"

احتارت الأم من آخر جملة، 
فلماذا لم يكتب في هذه الرسالة ما يريد قوله ؟ 
أم كتبها قي ورقة أخرى، لكن أضاعها نوح أثناء رحلته !! 
و أيضأ، لماذا قال بأنه يشعر بشيء غريب في هذه المرة ؟ 
تنظر  الأم نظرة حادة إلى نوح و كأنها تريد منه الاعتراف بالحقيقة، لكن 'نوح' ما زال يتناول وجبته .. 

و الأكثر من ذلك،
اليزا .. 

كيف ستصارحه بما حدث لها ؟ فهو حتى الآن لا يعلم شيئا و هي خائفة من أن تكتب له ما حدث في رسائلها .. 

قامت لتبحث عن الريشة و الحبر ، 
ثم نظرت إلى نوح و خاطبته قائلة : " إياك أن تذهب في هذه المرة دون رجوع ، مثلما فعل جدك مع نوح !! " 

 ‏
 ‏

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

يوما ما - الجزء الثاني

" .....  فالحب يا الحضار ليس كما أظهرته لنا الشاشات .. الحب هو ما يجعل الأرض سماء و ليس جحيما، حبك لك أن توزن أفعاله بأن تتخيل هل تقدر أن تفعل هذا أو تقول ذاك هناك في الأعالي أم لا !! تذكر أن الحب ينمو و القلب يتسع ان أردت  ... " صوته كان يقشعر له الأبدان، أسر آذان بل قلوب الجميع أثناء وقوفه بتلك الحلة البهية على هذا المسرح ..  و مع هذه الموسيقى الهادئة في خلفية كلماته، ينطق اللحن بما لم يستطع اللسان وصفه بعد ، كان الموضوع أشبه بالحلم ، بسيمفونية متكاملة النغمات تخترق مشاعر السامعين ...  قد كانت مقدمة لعمل مسرحي موسيقي من روائع تأليفه، كأنه ملأ المكان بعطر فاح رائحته فجذب الحضور من كل حدب وصوب .. دموعه انهالت في المشهد الختامي ، تصفيق حار لمدة لا تقل عن عشرة دقائق متواصلة ..  و التي في الصورة أعلاه ، نعم .. كانت هي إليزابيث ... 

أنت الحب و أنا لست الخطية

إلى الموت كان طريقي، أمسكوا بي و للرجم كان مصيري، أنا الخاطئة التائهة في شباك لعينة أمسكت بقدماي فزللت .. نظرات الاستحقار و المهانة تلاحقني كظلي، تحرق قلبي بالعار و لم أطيق ، شعرت بأني وحدي و لم يكن أحد معي، بحثت عن نظرة شفقة و لم أجد .. تمرمر قلبي، كل خطوة أخطوها نحو الموت كانت كافية لاسقاطي أرضا، تخيل أن هناك من يعجلك لآخر ومضات حياتك لينهيها .. لم أحتمل كل هذه المشاعر المضطربة من قبل، شيء معقد أن تذهب للموت الجسدي بلا روح مستعدة للانطلاق .. كنت بمثابة جثة هامدة في طريقها فقط لاعلان موتها علانية .. بحثت عن الحب و لم أجد، فظننت في فعلتي تلك بالدواء ، فكان مسمما .. إلى أن ظهر ذاك، السيد .. لم أكن رأيته من قبل و لم أرى مثله يوما ما في حياتي .. اصطدت في نظراته عيون القبول و الحب الذي لم تألفه عيناي طوال حياتي، كنت أشبه الصياد الذي درس كل عالم الأسماك بأشكالها و أنواعها، لكنه لم يصطاد سمكة واحدة .. سألوه من أمسكوا بي بأن مثل هذه ترجم كما في ناموس موسى  ، فماذا تقول !؟ حينها انخطف قلبي و كدت أصرخ كالأطفال، تيقنت بأنها النهاية، إلى أن رأيته ينحني على الأرض...

لنحيا ..

ما نظن أنفسنا نؤمن به ، تأتي تصرفاتنا لتعكس قلة إيماننا ..  ما نود قوله من كل قلوبنا ، يأتي الصمت ليلجم لساننا..  و حين يأتي وقت الصمت ، يكون قد مر الوقت !!  ما نريد أن نفعله مقتنعين به و ننصح به الآخرين ، يأتي الوقت لينسينا و يطفيء حماسة نفوسنا .. الآن نجلس لنقيم الوضع ، في موضع هاديء على ضوء الشموع .. كوب ساخن من المشروب المفضل مع بعض الأوراق المبعثرة الفارغة و قلم منذ الابتدائية ... نبدأ ب سؤال " ماذا لدينا هنا ؟" لدينا تصرفات لا تعكس ما نعتقد فيه ، لدينا أيضاً صمت ليس في وقته، وقت يمر و يمر و تنطفيء بمروره شمعة الحماس في قلوبنا .. مشاعر من الاستغراب و الحيرة بعض الشيء ،   الشك يبدأ يداعب نفسي، فهل حقاً كل ما أقوله عن إيماني في بعض المبادىء مثل حب الآخر ، مسامحته و طول البال على الكل ، فالكل معرض للخطأ .. أن أبادر نحو الآخر لا أنتظر أن يأتي إلي ، مبدأ آخر كالرجاء في وسط المشكلات و آخر مثل أهمية الالتزام و الاستمرارية على الشيء و أهمية تنظيم الوقت و ما إلى ذلك !!!   ‎يا إلهي ، نعم أعشق الحديث و التغني بجمال تلك المباديء و أهميت...